بقلم/ كمال الجزولى
يحسن (مركز الأمل لضحايا العنف والتعذيب) بالخرطوم صنعاً ، هذه الأيام ، وهو يطلق حملته المجيدة لتعميق المناصرة advocacy لمناهضة التعذيب فى فضاء المجتمع المدنى السودانى.
والحق أنه ، وعلى حين يتزايد الاهتمام فى شتى البلدان بإحياء السادس والعشرين من يونيو (اليوم العالمى لمناهضة التعذيب) ، فإن ضمير الإنسانيَّة ليقشعرُّ رعباً حين يذكر أنه أتى على مناهج التحقيق الجنائى حين من الدهر كانت تقضى فيه بتعريض المتهم للنار ، أو إلقائه فى اليمِّ مكتوفاً ، أو إرغامه على تجرُّع السُّم ، أو تركه فريسة للوحوش الجائعة ، كوسائل (مشروعة) (لاختبار!) براءته ، فإن كان بريئاً فإن الآلهة سوف تنجيه حتماً!
كان عرب الجاهليَّة ، مثلاً ، يرغمون المتهم على لعق طاسة مُحَمَّاة فى النار بلسانه ، فإن كان بريئاً لم يُصب بسوء! وكان قدماء المصريين يعرضونه على (تمثال!) الاله آمون الذى (يسأله) رئيس الكهنة عمَّا إذا كان بريئاً ، فإن لم يهز (التمثال!) رأسه بالايجاب يُعذب المتهم حتى يعترف! ولدى قدماء الاغريق أرسى أرسطو الأساس الفلسفى لنظام التعذيب باعتباره (خير) وسيلة للحصول على الاعتراف! كما مارسه الرومان على الأرقاء وأهل المستعمرات فى أواخر عصر الجمهوريَّة ، ثمَّ على المواطنين أنفسهم ، فى جرائم الخيانة العظمى ، مع مطالع الحقبة الامبراطوريَّة.
وفى ملابسات المواجهة بين العلماء والاكليروس الكنسى ، فى التاريخ القروسطى الأوربى ، استخدم التعذيب فى النظامين الانجلوسكسونى والقارى continental. ومنذ القرن 13م بدأت فى الانتشار ، بخاصة فى إيطاليا ، محاكم التفتيش Inquisition كمؤسسات (قضائيَّة) تتبع مباشرة للبابا وممثليه ، لتشيع الفزع بدعوى ملاحقة الهراطقة باسم الكنيسة الكاثوليكيَّة ، على حين كانت ، فى حقيقتها ، واحدة من أبشع صفحات الاستهداف للفكر السياسى المعارض ، وقد بلغت أوج نشاطها خلال القرنين 15م ـ 16م. وفى ما بعد صارت دلالة مصطلح (محاكم التفتيش) تنسحب على كل تحقيق تعسُّفى arbitrary أو محاكمة لا تقيم اعتباراً لحقوق الانسان ، خصوصاً متهمى الرأى والضمير.
إمتدَّ الزمن الذى اعتبر التعذيب خلاله وسيلة (مشروعة) حتى الثورة البرجوازيَّة العظمى فى فرنسا عام 1789م. على أن دواخل الانسان السَّوىِّ سوف ترتجُّ أيضاً ، حدَّ الزلزلة ، حين يذكر أنه ما زال يعيش ، حتى الآن ، فى عالم يتعرَّض الآلاف من رجاله ونسائه وأطفاله سنوياً ، وفى أكثر من مئة بلد ، والسودان من بينها للأسف الشديد ، لمثل هذه الأساليب الوضيعة فى انتزاع (الاعتراف) ، والوسائل الخسيسة فى (الحصول) من المتهم على (شئ ما)! بل وربما تعرَّضوا لما هو أفظع ، جسدياً ومعنوياً ، وهم يُدفعون دفعاً ، بكعوب البنادق وألسنة السياط ، معصوبى الأعين ، موثقى الأطراف ، مكبين على وجوههم ، بين أقبية معتمة تنشع بالروائح الزنخة والرطوبة الملحيَّة ، وبين زنازين ضيِّقة تكلست الحياة فى جنباتها الخانقة ، وتداخلت فوق أرضها الصلبة العارية وجُدُرها الصخريَّة الشائهة لطعات الدم بلطعات الصديد والمخاط والغائط والعرق! وليس نادراً ما يخرج بعض من كتبت لهم معجزة حياة أخرى وهمُ موتى فى الأحياء ، إلا مَن عصم ربك ، محضَ أشباح هائمةٍ ، مهشَّمى الأنفس ، مثخنين بجراح الروح والبدن ، متوجِّسين هلعاً حتى من ظلالهم ، يلتمسون الأمان فى العزلة عن الآخرين ، أو فى النقمة على الآخرين ، يحاولون اتقاء حتى بهرة الشمس الساطعة براجف الأكف فوق عيون كابية يترقرق فى مآقيها دمع زئبقىٌّ ، دون أن يجرؤ سوى أقل القليل منهم على اجترار ما رأى أو سمع فى ذلك البرزخ الخرافىِّ بين الحياة والموت!
يقع كلُّ ذلك ، وأكثر منه ، حين لا يستشعر (المُحقق) ذرة وازع من دين أو خلق ، أو حتى أوهى شعور إنسانىٍّ فى أدنى درجة من درجات التطوُّر ، يحول دون استقوائه ، فى لحظةٍ ما، بسلطةٍ ما ، لقهر المستضعف ، حالة كونه بلا حَوْل ولا طول ، محضَ كتلة آدميَّة زائغة النظرات ، مسحوقة الأعصاب ، واجفة الفرائص ، يابسة الشفتين ، مغلولة اليدين ، منزوعة ، قسراً ، من سياق الحياة الطبيعيَّة وضجَّتها كما تنزع ورقة بالية من دفتر قديم ، ومغمورة حتى فروة الرأس فى لجج من الرعب الساحِق ، والذلِّ الماحِق ، والألم المُمِض. كما ويقع ذلك أيضاً حين لا يلمس مثل هذا (المُحقق) رادعاً من رقابة دستوريََّّة تكفُّ يده الغليظة عن العبث بحياة الناس هكذا ، وتزجر نفسه السوداء عن الاستهانة بكرامتهم على هذا النحو ، أو حين لا يتوقع مساءلة قضائيَّة أو حتى إداريَّة تلزمه جادة المناهج الحديثة التى راكمتها قرون من التطوُّر المعرفى فى حقل العلوم القانونيَّة ، وسيَّجتها بالمعايير الدوليَّة لضمانات حقوق الانسان وأشراط المحاكمة العادلة!
مع ذلك كله فقد قطعت البشريَّة رحلة شاقة باتجاه رفع قضية (مناهضة التعذيب) إلى قلب أولويَّاتها. وشكل إنشاء (الأمم المتحدة) ، تحت رايات المفاهيم الجديدة للحريَّة والديموقراطيَّة بعد الحرب الثانية ، محطة مهمَّة فى تلك الرحلة. ففى 10/12/1948م صدر (الاعلان العالمى لحقوق الانسان) الذى تنصُّ (المادة/5) منه على حظر تعريض أىِّ إنسان للتعذيب أو الحط من كرامته. وفى 16/12/1966م رفدت الجمعيَّة العامة (الشرعة الدوليَّة لحقوق الانسان) بوثيقتين أساسيَّتين:
الأولى: (العهد الدولى للحقوق المدنيَّة والسياسيَّة) الذى دخل حيِّز التنفيذ فى 23/3/1976م ، وتنص (المادة/7) منه على عدم جواز إخضاع أىِّ فرد للتعذيب أو لأيَّة معاملة قاسية أو غير إنسانيَّة أو مهينة ، وتنص (المادة/2/3) منه على التزام كل دولة طرف فيه بأن تكفل لكل فرد تقع عليه مثل هذه الاعتداءات علاجاً فعَّالاً لحالته بوساطة السلطات القضائيَّة أو الاداريَّة أو أىِّ سلطة أخرى مختصَّة ، وأن تضمن تنفيذ ذلك العلاج ، كما تنص (المادة/14) منه على عدم إلزام أىِّ متهم بالاعتراف أو الشهادة ضد نفسه.
والثانية (البروتوكول الاختيارى الثانى) الملحق بذلك العهد ، والذى دخل حيِّز التنفيذ أيضاً فى نفس التاريخ ، وتنص (المادة/1) منه على إقرار كل دولة طرف فيه باختصاص (اللجنة الدوليَّة لحقوق الانسان) ، المنشأة بموجب (المادة/28) من العهد ، باستلام ودراسة تبليغات الأفراد الذين يدَّعون أنهم ضحايا انتهاك تلك الدولة لأىٍّ من حقوقهم ، كما تنص (المادة/2) منه على حقهم فى التبليغ.
وفى 9/12/1975م إعتمدت الجمعيَّة العامَّة تعريف (التعذيب) فى (إعلان حماية جميع الأشخاص من التعرُّض للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة والعقوبة القاسية أو اللا إنسانيَّة أو المهينة) بأنه: "كلُّ فعل يُنزل بشخص ، عن عَمْدٍ ، ألماً أو أنواعاً حادة من العذاب ، بدنيَّة كانت أم ذهنيَّة ، وذلك من جانب موظفين عموميين ، أو بتحريض منهم ، بهدف الحصول منه ـ بصفة خاصة ـ أو من شخص ثالث على معلومات أو اعترافات ، أو معاقبته على فعل ارتكبه ، أو يُشتبه أنه ارتكبه ، أو تخويفه ، أو تخويف أشخاص آخرين".
ويذهب فقهاء القانون الدولى والجنائى إلى أن التعذيب ، بهذا المفهوم ، غير مبرَّر ، لا من ناحية الأخلاق ولا من ناحية القانون ، علاوة على كونه بلا طائل من الناحية العمليَّة ، حيث لا تنتج عنه ، فى الغالب ، سوى معلومات زائفة. فلئن كان من السهل إرغام شخص على الكلام ، فمن العسير إجباره على قول الحقيقة.
وقد تحدَّد ، فى الاعلان أيضاً ، معيار معاملة المقبوض عليهم باتساق مع قواعد الحدِّ الأدنى المعياريَّة لمعاملة المسجونين الصادرة عن مؤتمر الأمم المتحدة الأول بجنيف حول منع الجريمة ومعاملة المجرمين لسنة 1955م ، والتى اعتمدت من قِبَل (المجلس الاقتصادى ـ الاجتماعى) عام 1957م.
وبطلب من الجمعيَّة العامة فى 8/12/1977م ، عززته فى 16/12/1983م ، أعدت (اللجنة الدوليَّة لحقوق الانسان) مشروع تحويل (الاعلان) إلى (اتفاقيَّة) وأحالته إلى الجمعيَّة العامَّة فى 6/3/1984م ، فأجازتها فى 10/12/1984م ، ودخلت حيِّز التنفيذ فى 26/6/1986م ، وهو التاريخ الذى اعتمدته الجمعيَّة ، فى ديسمبر 1997م ، يوماً عالمياً لمناهضة التعذيب. فما هو مضمون الاتفاقيَّة ، وما هى أهميَّتها؟! وكيف يمكن دعم مبادرة المنظمة السودانيَّة بشأنها؟! هذا ما سنحاول أن نعرض له الأسبوع القادم بإذن الله.
28 يونيو 2005
No comments:
Post a Comment